بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
الحياة أشبه بسوقٍ مزدحم تتقاطع فيه الأصوات، وتتشابك الآراء، وتتناثر الأوصاف كأوراق الخريف. في خضمّ هذه الضوضاء، تبرز حكمةٌ خالدة تدعونا إلى وقفةٍ مصيرية مع ذواتنا: ألّا نسمح لأحدٍ أن يحدد قيمتنا، وألّا نرهن سلامنا الداخلي بآراءٍ متقلبة. جوهر هذه الحكمة ليس مجرد نصيحة عابرة، بل ثورةٌ صامتة على كل أشكال التبعية النفسية، وصرخة تحرر من سجن التوقعات التي يفرضها علينا الآخرون.
الناس كالبحر المتلاطم، تختلف طبائعهم وتتنوع أمزجتهم كما تختلف ألوان البحر وأمواجه. هذا التنوع سنة كونية، لكنه يصبح مصدرًا للألم حين نحاول قسر البشر في قوالب جامدة، أو نطمح لفهم كل سرّ من أسرارهم .
ننسى أن الإنسان كونٌ قائمٌ بذاته، لا يمكن اختزاله في كلمة أو وصف. نصنع لأنفسنا أوهامًا بالألقاب: "ناجح"، "فاشل"، "شجاع"، "جبان"، وكأن هذه الكلمات تستطيع احتواء تعقيد الروح البشرية. تلك الأوصاف التي يلصقها الناس بنا ما هي إلا مرايا مشوّهة تعكس رؤيتهم المحدودة وانطباعاتهم العابرة، لا حقيقة جوهرنا.
الخطر الحقيقي يكمُن في تحويل هذه الأوصاف إلى سجّانٍ لأرواحنا. حين نربط سعادتنا وقيمتنا بآراء الآخرين، نصبح كالقارب الورقي في عاصفة. المديح الذي يغمرنا به البعض قد يكون سُمًّا مغلّفًا بعسل المصلحة، أو صدى لأهوائهم لا لفضائلنا. قد يكون بناءً على صورةٍ مزيفة صنعناها بأنفسنا، لا على حقيقتنا التي نعرفها. وبالمثل، ذلك الذمّ الذي يخترق قلوبنا كالسهام، قد يكون بركانًا من أحقاد شخصية، أو صادرًا عن جهلٍ بتفاصيل رحلتنا، أو مجرد إسقاطٍ لعيوب الذامّ نفسه. الارتهان لهذه الآراء يحوّل حياتنا إلى أرجوحةٍ عاطفية: صعودٌ وهبوط مع كل كلمة، وقلقٌ دائم :
" ماذا يقولون عني اليوم ؟ " . فنفقد توازننا ، ونصبح سجناءً لانطباعاتٍ عابرة لا تملك أدنى حقيقة.
في مواجهة هذا الضجيج، تشرق الحقيقة الأكثر إشراقًا: أنت الوحيد الذي يملك مفاتيح نفسك. أنت الأقرب إلى نبض مشاعرك، وخفايا نواياك، ومعاركك التي خضتها في صمت، وانتصاراتك التي لم يراها أحد. أنت وحدك تعرف ثقل التجارب التي صاغتك، والأحلام التي تحرسها في أعماقك. الآخرون يرون لقطاتٍ مقتطعة من فيلم حياتك، لا الفيلم بأكمله. لذلك، فإن تسليم مفتاح تقييمك لمن لا يملكون أدوات القياس الصحيحة ظلمٌ فادح ترتكبه بحقّ نفسك، وتنازلٌ عن أعظم مسؤولية : فهم ذاتك وإصلاحها.
هذه المعرفة ليست دعوة للعزلة أو الغرور، بل هي خريطة طريق نحو الاستقلال الحقيقي. ابدأ بالوقوف بصدقٍ أمام مرآة ذاتك. اعترف بأخطائك دون جلدٍ مبالغ فيه، واحتفِ بنقاط قوتك دون غرور. استمع إلى النقد والمدح، لكن مرّرهما عبر مصفاة وعيك. اسأل نفسك: هل هذا يتوافق مع حقيقتي؟ من أين تنبع هذه الكلمات؟ وما هدف قائلها؟ تقبّل أنك عملٌ غير مكتمل، واجعل ميزانك أداةً للنمو لا للإدانة. ركّز على سؤال التطوّر: "كيف أتحسن؟" لا على ثنائية "جيد أم سيء". درّب نفسك على مناعةٍ عاطفيةٍ تمنعك من الانهيار بذمٍ جارح، أو الطيران بمدحٍ زائف. وارفع شعارًا وجوديًا: قيمتي لا تُستمدّ من مرايا الآخرين، بل من نور ذاتي الذي أعرفه جيدًا.
في عالمٍ يصرخ بألف صوت، ويُلصق عليك ألف وصف، تذكّر أن حرّيتك تبدأ حين تتوقف عن البحث عن نفسك في عيون الناس. قيمتك الحقيقية لا تُقاس بثناء المادحين ولا تهبط بذمّ الذامين. هي شعلة مقدسة تشتعل في أعماقك، وتزداد توهجًا كلما اقتربت منها، وكلما أدركت أنك الوحيد المؤهّل لحملها. فكن أنت الميزان الذي تزن به أفعالك، والفنان الذي يرسم هويته بيديه، والقاضي العادل الذي يحكم على مسيرته بإنصاف. لأنك حين تعرف نفسك حق المعرفة، وتثق بها حق الثقة، تصبح كالجبل الراسخ: لا تهزّه رياح الأقوال، ولا تغيّره ألوان الأوصاف. عندها فقط تدرك أن السلام ليس مكانًا تصل إليه، بل حالة تولد من رحم معرفتك بذاتك، وقبولك لها، وإصرارك على أن تكون أنت - لا سواك - ميزانَ قيمتك، وشاهدَ رحلتك، وحارسَ قدسية روحك .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

إرسال تعليق