بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
"وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" (سورة البروج: 8)
🩸تتعدد نعم الله تعالى على عباده ، بعضها ظاهر ملموس كالصحة والمال ، وبعضها أعمق أثراً وأبقى أثراً في النفس . ومن أعظم هذه النعم ، خاصة للمظلوم المستضعف ، تلك النعمة التي تجلت في قوله تعالى : "وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ" (البقرة: 50) .
🩸إنها نعمة " رؤية هلاك الظالم وزوال سلطانه الجائر أمام عين المظلوم ".
ليست مجرد إزالة للظلم ، بل هي مشهد حيّ يغرس في القلب يقيناً لا يتزعزع بعدالة الله وقدرته ، ويروي غليل الصدر بعد طول معاناة.
لماذا تشكل هذه الرؤية نعمة خاصة ؟
١- تجسيد حيّ لانتصار العدل الإلهي :
إن مجرد سماع خبر سقوط طاغية أو زوال نظام جائر يبعث على الارتياح. لكن مشاهدة هذا الزوال ، رؤية عجز من كان يصول ويجول ، ذل من كان يتجبر ، وزوال قوة كانت تبدو أزلية .
كما شهد بنو إسرائيل غرق فرعون وجنوده ، فهذا يرفع الشعور بالعدالة من مستوى الفكرة المجردة إلى الحقيقة الملموسة ، العين ترى كيف أن قدرة الله الباطشة تلحق بالظالم في ذروة كبريائه ، وكيف أن مكره يعود عليه ، وكيف أن الماء الذي فرقه الله لنجاة المستضعفين يصير قبراً للجبارين. هذه الصورة تنطبع في الذاكرة والوجدان ، وتصير دليلاً مادياً على أن الظلم لا يدوم مهما علا صاحبه.
٢- الشفاء النفسي للمظلوم :
الظلم يترك جراحاً عميقة في النفس : شعور بالعجز ، بالإهانة ، بالخوف ، ربما باليأس من إمكانية التغيير. عندما يشهد المظلوم هلاك ظالمه بعينه ، تحدث عملية "إغلاق" نفسي للجرح .
إنه يرى نهاية مصدر ألمه ورهبته. هذا المنظر يبدد مشاعر العجز ، ويستبدل الخوف بالطمأنينة ، والإهانة بالكرامة المستعادة ، واليأس برجاء متجدد في عدالة الرب الذي لا يخلف الميعاد . إنه تطهير للقلب من رواسب الكرب الذي خلفه الظلم.
٣- تثبيت الإيمان وتقويته :
مشهد هلاك الظالم أمام ناظري من كانوا تحت وطأته هو درس إيماني عميق .
إنه يثبت
- أن الله سميع بصير : يرى الظلم ويرى المظلوم.
- أن الله قادر : لا يعجزه شيء، ولا يستعصي عليه طاغية.
- أن الله حكيم : يأخذ الظالم في الوقت والمكان اللذين يجعلهما عبرة للمعتبرين ، وينصر المظلوم بالطريقة التي تزيد يقينه.
- أن وعد الله حق : " إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ " (غافر: 51) .
هذه الرؤية تتحول إلى رصيد إيماني يعين المؤمن على صبره في المحن اللاحقة.
٤- قطع دابر الشك والوسوسة :
قد يتسرب إلى قلب المظلوم ، خاصة مع طول الأمد وقسوة الظلم ، شك : هل الله غافل ؟
هل الظالم قد نجح بمكره ؟
هل هناك عدل حقاً ؟
مشهد الهلاك الفعلي يجتث هذه الوساوس من جذورها .
فهو الجواب الحاسم، الصامت لكنه مدوٍّ ، على كل تساؤل . الرؤية هنا أبلغ من أي حديث.
٥- عبرة وعظة للأجيال :
ليست النعمة محصورة فقط فيمن شهدوا الحدث. مشهد انهيار الظالم أمام أعين ضحاياه يصبح أقوى عبرة تتوارثها الأجيال. قصة فرعون وغَرْقُه وهو يتحدى الله ، وشهادة بني إسرائيل لهذا المصير ، صارت نموذجاً خالداً في القرآن وفي التاريخ البشري كله ، يذكّر كل ظالم بمصيره المحتوم ، ويثبت كل مظلوم على الصبر والثقة بالله . إنها نعمة تتجاوز الزمان والمكان.
🩸أليس في هذا انتقام ؟ أليس الأولى التسامي ؟
💧قد يطرح سؤال : ألا يحمل مشهد الهلاك هذا بذور الحقد والرغبة في الانتقام ؟
الجواب الحاسم من خلال النص القرآني والمنظور الإسلامي هو " لا " الفارق الجوهري يكمن في المصدر والهدف :
💧الانتقام الشخصي : ينبع من الحقد والغضب الذاتي، ويسعى لإذلال الخصم وإيلامه بقدر ما أُوذي ، وغالباً ما يتجاوز الحد . هذا مذموم.
💧عقوبة الله وهلاك الظالم : هو تحقيق للعدل الإلهي. هو ردّ للاعتبار للمظلومين ، وإحقاق للحق ، وزجر للآخرين . هو تطهير للأرض من الفساد . وهو بيد الله وحده ، لا يتدخل فيه المظلوم إلا بالدعاء والصبر والثقة . مشاهدته من قبل المظلوم ليست لحظة انتقام ، بل هي لحظة تحقيق لوعد الله ، واقرار بعدالته ، وشفاء للنفوس ، ولهذا هي نعمة . إنها تريح القلب من هم الثأر ، لأن الله قد كفاه ذلك.
🩸في عصرنا : تجليات النعمة
لا تقتصر هذه النعمة على غرق فرعون . فكم من طاغية سُحق في ميدان المعركة أمام جنوده الذين كانوا رعب الأمم ! وكم من متجبر أُذل في قاعة المحكمة أمام من ظلمهم ! وكم من نظام جائر انهار في ثورة شعبية عارمة رأى خلالها المستضعفون زوال أصنامهم المستبدة بأعينهم ، كل هذه مشاهد معاصرة لهذه النعمة الجليلة ، تذكرنا بأن سنن الله ثابتة :
" وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ "
(آل عمران : 140).
🩸وختاماً ... فيا من تشعر بثقل الظلم ، ويا من يلفه سواد اليأس ، ويا من يتألم من صلف المتجبرين ، اصبر وصابر واربط قلبك بخالق السماوات والأرض . ثق بأن نصر الله آتٍ ، وأن كيد الظالمين لا يزيد إلا وهناً .
وتذكر نعمة الرؤية ، نعمة أن تشهد بنفسك زوال من آذاك ، ذهاب من هزمك ، انهيار من استضعفك . ستكون لحظة ترى فيها عدالة السماء تتجلى على الأرض ، لحظة تطمئن فيها القلوب بعد طول قلق ، وترتوي فيها الأرواح بعد طول عطش . لحظة تشهد فيها بصر عينيك مصير كل فرعون متكبر ، وترى كيف يتحول بحر الظلم الذي خُيّل لك أنه سيغمرك ، بإذن الله ، إلى جدارين من رحمة ، ثم إلى قبرٍ هائلٍ يطوي ظلمته إلى الأبد .
فاصبر ، فإن نصر الله قريب ، ولعل عينك أن تكون شاهدة على النعمة الكبرى :
" وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ "
عندها ستعرف أن كل صبرك كان طريقاً إلى مشهد لا يمحوه الزمن ، مشهد العدالة الإلهية في أبهى صورها ، مشهد الطمأنينة التي لا يعقبها خوف .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه

إرسال تعليق